تقنيات الخطاب المقنع والخطاب العادي
مدخل
لم تجب نظرية تحليل الخطاب حتى الآن عن أسئلة كثيرة تتعلق بما هو خارج عن تحليل المحادثة والكتابة. كيف يرتبط الخطاب المنطوق والخطاب المكتوب ببقية الأنواع الأخرى من الخطابات؟ وما هي الصفات العالمية والصفات المحلية لكل أنواع الخطابات؟ هل يمكن أن نضع جدولاً معيناً لأنواع الخطابات؟
ما نريد قوله أنه من المفيد ألاّ نتطلع إلى الخطاب في شكله الظاهري فيما إذا كان محادثة أم كتابة، بل يجب أن ننظر بعمق إلى أبعاده وأهدافه. إن تنوع الخطابات يأتي من تنوع الأهداف والأغراض التي يريد الخطاب أن يحققها. وهكذا فإن الأداء الناجح للخطاب هو ما يريد أن يحققه المتكلم أكثر من كون الخطاب قد وضع في صيغة معينة.
من هنا فإن التمييز الوحيد الذي يريده اللسانيون بين أنواع الخطابات يقوم على الهدف الذي يريد الخطاب تحقيقه. وهذا لا يمنع من أن يكون هناك أقسام ومصنفات كثيرة تقوم عليها الخطابات. إلاّ أننا سنركز هنا على الخطاب "المقنع" والخطاب "العادي" لمعرفة بنيتهما ووظائفهما.
1.سمات الخطاب المقنع والخطاب العادي
بادئ ذي بدء ليس من أهداف الخطاب العادي أن يكون مقنعاً أو يحاول إقناع الآخرين.
أولى سمات الخطاب المقنع هو غياب التفاعل، أي عدم مشاركة الأعضاء المتحدثين بعضهم إلى بعض في الحديث وأخذ كل إنسان منهم دوره فيه. والمثال على ذلك أن الخطاب الذي يتم في الصف هو خطاب غير تفاعلي، أي ليس فيه تبادل للأدوار. إن المشارك الواحد هنا هو الذي يختار الموضوع وهو الذي يتكلم، ثم هو الذي يحدد بداية الكلام ونهايته. إن قوة الإقناع هنا هي في يد ذلك الإنسان الذي يمسك بزمام الأمور.
يمكن أن يتساءل المرء ويقول إن المشارك الآخر في الخطاب يمكن أن يقول شيئاً أو يرفض التأثير الآتي من المتكلم.... الخ. على كل حال سوف نشرح هذه المسألة فيما بعد لنبيّن ما الذي يكوّن قوة الإقناع والتأثير في الخطاب.
أما الخطاب العادي فيتميز بالتفاعل والمشاركة في الحديث بين المرسل والمتلقي... وهو خطاب يتسم بالمساواة بين المتكلم والمستمع (أ=ب). إن الخيارات عند (أ) هي نفسها عند (ب) (من تساؤلات، وتوقع أجوبة، وتسجيل حالات معينة، ورفض أجوبة.. الخ). وإذا حدث خرق معين في الخطاب يشعر المشاركون أن القاعدة قد خُرقت هنا، وأنهم في وضع حرج (أي أن أ# ب).
وهكذا فالخطاب المقنع –تعريفاً- هو خطاب يحاول أن يؤثر من خلال النية- في المشاركين لإقناعهم باستخدام معيار اللامساواة واللاتكافؤية واللاتبادلية في الحديث.
ونعني بالنية أن المتكلم يريد تغيير سلوك الآخر ومشاعره بوسائل اتصالية يمكن أن تكون لغوية أو غير لغوية (إشارات، رموز، حركات، إيماءات، وإيحاءات... الخ).
إن الخطابات القائمة على الدعايات التجارية والحملات الإعلامية والبلاغة السياسية والاحتفالات الدينية تدخل كلها في إطار الخطاب المقنع. أما المحاضرات التي يلقيها الأستاذ على طلابه والمعالجات النفسية التي يطبقها الطبيب على مرضاه والأدب بأجناسه يمكن اعتبارها خطابات إشكالية تدخل بين الإقناع وعدمه( أي خطابات معقدة).
ومن جهة أخرى، وفي الوقت الذي نعتبر الفعل الجسدي المباشر خارج الخطاب المقنع، كوضع البندقية على رأس أحدهم ليغير سلوكه، فإن غسل الدماغ مثلاً موضوع محيّر لا نعرف أين نصنفه. على أية حال، إن غسل الدماغ يجب ألاّ يصنف ضمن الخطاب المقنع، ذلك لأن هناك إلى حد ما تداخلات جسدية من عزلة عن بقية الناس أو عدم توفير الراحة.. الخ.
ولكن ينبغي أن نتذكر دائماً أن استعمال المبدأ السطحي للمساواة والتكافؤ بين المتحدثين لتحقيق هدف عميق من اللامساواة واللاتكافؤ هو عمل غير شرعي. وهكذا يمكن أن نصنف الخطابات طبقاً لما يلي:
(1)الخطاب العادي.
(2)الخطاب المقنع.
(3)الخطاب المعقد (الإشكالي).
-الخطاب العادي: هو خطاب عفوي لا يعتمد على التخطيط المسبق، أما في حالة الفن أو حالة المحاضرة فلا يفترض أن تكون عفوية. المحاضر يمكن أن يراجع ما كان قد أملاه على طلابه (نوطة... ملاحظات.. الخ).
والواقع أن ظاهرة العفوية مرتبطة بظاهرة التكافؤ والتبادل والمساواة بين المتكلم والمستمع، أي أن للمستمع الحق نفسه والخيارات نفسها التي يملكها المتكلم.
-أما الخطاب المقنع: فإنه خطاب يحمل صفة البدعة والانزياح عن المألوف. وهذا يختلف عن الحديث العادي الذي يتسم بالمألوفية بين المشاركين.
والواقع أن بنية الحديث ومفهومه اختلف تماماً عما كان عليه منذ حوالي مئتي سنة خلت، ولا سيما بنية افتتاح الحديث وإنهائه، هذا التبدل ينطبق على الحديث العادي العفوي، أما الخطاب المقنع فله شأن آخر، ذلك أن هذا الخطاب يقوم على تقديم الجديد دائماً في مستوى الأسلوب (بنية التركيب) وفي مستوى المضمون (بنية الدلالة). يتجلى اللامألوف هنا تحديداً في المستوى المعجمي (الألفاظ، التعبيرات..الخ)، وفي المستوى الدلالي (مفاهيم جديدة تقدم باستمرار)، وأخيراً في المستوى الوظيفي (الطريقة السيميائية التي من خلالها يتوجه المتكلم إلى المستمع.. كاستخدامه لغة الأجسام والإشارات..). إن الفكرة المهمة هنا هي أن الخطاب المقنع قادر على أن يصمد ويستمر، أما الخطاب العادي فسرعان ما يتلاشى.
وتأتي هذه الحقيقة من ميزة أخرى يتسم بها الخطاب المقنع وهي أننا نرى هنا مستمعاً يستمع أكثر مما نرى متلقياً يحلل. ونحن نعرف أن فاعلية أو قدرة الاستماع لا تنسجم مع فاعلية التلقي والتحليل أو الثنائية الحوارية. إن حالة الخطاب المقنع يتسم بالأحادية ذلك أن المستمع ليس عنده دور فاعل كما هو الشأن عند المتكلم. والواقع ينبغي أن نفرق هنا بين الخطاب الدرامي المسرحي والخطاب العادي العفوي.
-في الخطاب الدرامي المسرحي: نجد أن الحوار معدٌّ له من قبل أكثر من كونه عفوياً، لذلك فإن العفوية في هذا الخطاب قليلة الحدوث، بل هي نادرة إن لم تكن معدومة. وإذا كان هناك عفوية فإنها تتميز بالإعداد المتقن من أجل أن تجعل الآخرين يشعرون شعوراً جيداً.
2.مراحل المشاركة
في الخطاب اللساني
يمتد دور المستمع في الحديث على خط بياني طويل، يبدأ من عدم المشاركة في الحديث وينتهي بالمشاركة الفعلية الواعية. بين نقطة البدء والانتهاء هناك نقاط مختلفة للمستمع يمكن أن نأتي على ذكرها:
1.يمكن للمستمع مثلاً أن يكون حاضراً ولكن دون أن يدري به المتكلم. أي أن دور المستمع يظل غير مكتشف وليس هناك أية قرينة تدل على وجوده (المثال على ذلك الاحتفالات، والمهرجانات، والأعراس). المستمع موجود هنا كشاهد... ولكنه لا يشارك الحدث لأن السياق لا يجعلنا نتوقع من المستمع أن يفهم أو يدل على أنه يفهم ما يجري حوله. "إن دوره يقتصر على الحضور فقط".
2. يمكن للمستمع مثلاً أن يكون في قاعة يستمع إلى محاضرة. إن السياق يجعلنا هنا نتوقع منه أن يفهم وأن يقوّم المحاضرة في نهاية المطاف. والأهم من ذلك يمكن للمستمع أن يبدي بعض الإشارات السيميائية-الجسمانية (كهز الرأس مثلاً) ليدل على الموافقة أو عدمها. إن المحاضر الماهر في هذه الحالة يستطيع ابتداع طرائق لاكتشاف هذه الأجوبة السيميائية من المستمع.
3. يمكن للمستمع مثلاً أن يكون في تجمع (سياسي أو ديني أو اجتماعي.. الخ) يجعلنا السياق نتوقع أن يشارك فيه المستمع من خلال ترداد واضح لعبارات معينة (مثل آمين، صحيح، صياح، تصفيق) يطلب منه أن يرددها. إن حضور المستمع هنا مهم جداً للمتكلم، ذلك أن هذا الحضور وترداد هذه العبارات يعطي مؤشراً فيما إذا كان الخطاب مقنعاً ومؤثراً أم غير ذلك.
ويدخل في هذا الموضوع تطبيق الحدود القصوى المحكية لعنصر الزمن والتي وضعها اللساني الأمريكي "غريس" (1975 Grice). إن المشارك في الخطاب العادي يشعر بالغربة وعدم الوضوح والملل والضجر إذا أخذ المتكلم وقتاً طويلاً. أما في حالة المحاضرة، فإن المشارك يمكنه أن يتحمل أكثر إذا أخذ المحاضر الوقت الطويل نفسه(2). وتعتمد هذه الأمور على علاقة المشاركين في الحديث.
ولكن كيف يمكننا تحديد "قوة الخطاب"؟
إن الخطاب المقنع تتحدد قوته من خلال تحكم المتكلم وسيطرته على الحديث، يمكننا أن نقول في الوقت نفسه إن قوة الخطاب وضعفه تكمن في المستمع أيضاً وذلك إذا أراد الاستمرار في الاستماع أو أراد التوقف. في حالة المحاضرة يمكن للمستمع أن يصغي تماماً ويمكنه أن يهمس في أذن غيره ويمكنه أن يغادر.. الخ. وفي حالة المرضى النفسانيين يمكنهم أن يستمروا في العلاج عند الطبيب المتكلم ويمكنهم أن يتوقفّوا. ثم إن المستمع لحديث تاجر ما يمكن أن يشتري بضاعته ويمكنه ألاّ يشتريها.
على الرغم من أن كل هذه الخيارات المتاحة للمستمعين تعدّ قوة إلاّ أنها لا تتساوى مع القوة الموجودة داخل الخطاب نفسه. من هنا يمكننا أن نستنتج أن القوة داخل الخطاب تعد بمثابة الشر، وظهورها علامة واضحة على خراب الخطاب وفساده لأن الخطاب ينبغي أن يكون حيادياً بين عنصرين: المتكلم والمستمع كما يظهر ذلك في الصورة التالية:
خطاب
أ = ب
إن المتكلم في هذه الحالة من المساواة ينبغي أن يكون مستمعاً، كما أن المستمع ينبغي أن يكون متكلماً.
تتحدد قوة الخطاب أيضاً من خلال انسجامه وتناغمه الداخلي ذلك أن نشاط الخطاب المنطوق والمسموع هو جهد عضلي يتم لتحقيق هدف معين يتجاوز النشاط نفسه، وحتى إذا لم يكن للخطاب هدف فله وظيفة كالوظيفة الاجتماعية للحديث: أي أن يكون المتحدث اجتماعياً (بالتحدث) من أجل كسر الصمت فقط كما يذهب إلى ذلك اللساني الاجتماعي مالينوسكي (1923 ص 315)(3)
والواقع أن كل خطاب لـه قواعده وضوابطه، أي المعطيات التي يقوم على إنتاجها أكثر من كونه. قيوداً ومحددات. ويدخل في هذا المجال العامل اللغوي، والعامل غير اللغوي ليسهما في إنتاج الخطاب القوي (سلوك المتحدث، سلوك المستمع، تكامل السلوكين...).
ففي حين يؤكد محلل الخطاب على الوجوه المتبادلة والعلاقات القائمة بين المتحدث والمستمع فإن محلل السياق يؤكد على الوجوه التكاملية.
والواقع تشكل العلاقات التبادلية والعلاقات التكاملية اتجاهين مهمين في عملية الخطاب القوي والمؤثر: واحد أفقي والآخر عمودي.
لقد دعا جمبرز (1977) هذه الوجوه بـ "القرائن السياقية"(4) التي تعد فروعاً من أدوات الخطاب والتي كان قد دعاها باتسون (1972) بـ "الاتصال الماورائي للغة". وهذا يعني أن النص + السياق شيئان يكملان بعضهما بعضاً.
إن الروابط التي يقوم عليها الخطاب تتجاوز السياق والزمان والمكان وحتى الخطاب نفسه، لأن تأثير الخطاب يمكن أن يأتي من خارج الخطاب نفسه عابراً الأيام والشهور والسنوات (كالمعرفة التراثية والمعرفة الفردية والمعرفة اللغوية). وحسب رأي أريكسون
(1982) هناك أربعة مصادر لصياغة البنية الاجتماعية المنسجمة للخطاب القوي(5):
(1) كيفية الجلسة والوقفة والحالة النفسية للمشاركين في الحديث، ثم كيفية نظراتهم (عادية، محدقة، متفرسة...) والتي تعد كلها وسائل غير لغوية لإنتاج الخطاب.
(2) الروتين الإصغائي للحديث.
(3) المصادر الشائعة المعروفة لمضمون الموضوع.
(4) التنظيم الإيقاعي الموزون للكلام.
والواقع هناك دائماً خطاب فاعل ومتفاعل، أي أن الخطاب عمل منجز لا يولد على نحو طبيعي.
فالمحاضر وهو يحاضر على الطلبة يُدْخِل في خطابه بعض الابتسامات والإشارات الآتية من الطلاب تدل على انتهاء المحاضرة، أو الانتقال إلى موضوع آخر.
وهذا يدل على أن الخطاب إنجاز متداخل أي أنه فاعل ومتفاعل وليس إنجازاً فردياً. هذا الإنجاز المتداخل يستند إلى صيغ اجتماعية منظمة تنظم هذا الخطاب وتدفعه إلى الأمام. ويكون هذا يفضل آلة الخطاب التي هي آلة مخبأة وغائبة يمكن معرفتها من خلال بعض آثارها. فالمتحدث يرافقه سلوك معين في أثناء تحدثه هو نتاج هذه الآلة (كالحمحمة، والضجيج، والقحة، وهزِّ الرأس... الخ).
وهكذا ينبغي أن ننتبه إلى هذا السلوك في أثناء تحليل الخطاب، ذلك أن استمرارية الخطاب وحيويته تقومان على هذا الأخذ والرد والتداخل بين المرسل والمرسل إليه.
فهذا السلوك المتمثل في إشارات الاهتمام، (كهزِّ الرأس، والابتسامة وكلمة نعم، والهمهمة، وصوت هاها، وكلمة جيد.. الخ) يشكل وظائف مهمة في الخطاب تجعله يسير بنعومة ولطافة وشفافية.
ونعني بالتنظيم الإيقاعي للكلام التقنيات الإيقاعية التي تؤثر في الحديث وتجعله أكثر فهماً ووضوحاً.
من هذه التقنيات:
القافية (Rhythem) والتزامن (Timing) والسرعة (Tempo) أو الدرجة الواجب اعتمادها في الحديث، وطريقة الكلام (Pace).
فالزمن مثلاً مهم لإعطاء المتحادثين بعضهم بعضاً الوقت الكافي من أجل التفاهم.
وقد أكد اللساني البيولوجي إيريك لينبرغ
(1967) في كتابه: الأسس البيولوجية للغة (Biological Foundations of Language) أن الإيقاع (Rhythmicity) هو المبدأ المنظم للكلام واللغة في الدماغ البشري.
وقد عنى بالإيقاع: النغمة، واللكنة، والوصلة بين حديث وحديث، ثم التكرار، والقحة، والعطس، وتوضيح الحناجر، والنفخ في الأنف، والضحك في إيقاع جميل.
إن التوازن الإيقاعي في الحديث هو معيار مهم لامتحان درجة الموافقة أو المطابقة في وجهات النظر بين المشاركين في الخطاب.
فالوقف القصير في الكلام، والذي يشمل التردد والتأني يتعلق بعوامل إدراكية عقلية، هو نتيجة لصعوبة المفردات المعجمية أو التراكيب المعقدة.
ثم إن طول الوقفات من المتكلم يُعدّ مؤشراً سلبياً على حالة القلق تجاه قضايا معينة. أما قصر الوقفات فيعدّ مؤشراً إيجابياً يدل على أن المتكلم متلهف للحديث مع الآخرين اجتماعياً.
والواقع إن ما يحدد الوقفة في الحديث عوامل ثلاث:
(1)العامل الإدراكي.
(2)العامل التأثيري.
(3)العامل الجمالي.
إن كل هذه العوامل تحدد قيمة الوقفة والصمت في الحديث، ذلك الصمت الذي يُعدّ عاملاً مهماً لتحديد وظيفة الخطاب. هذا بالإضافة إلى أن كل نوع من الصمت له وظيفته المحددة.
ويشير اللساني الاجتماعي جمبرز إلى أن الناس عندما تتكلم يجب أن تنتبه لا إلى الحديث فحسب بل لسياقه أيضاً، ذلك أن لكل حديث سياقه، وإلاّ فإن مشكلات اتصالية ستتولد في هذا المجال.
والخلاصة:
أن الخطاب إنجاز قائم على الدخلْ (من يتكلم الآن) وعلى الخرجْ (وسائل الرد اللغوية وغير اللغوية) إن سبر بنية الخطاب ووظيفته يعرفنا على الوجوه الأخرى لقوة اللغة والتي بدونها لا يمكن لعملية الاتصال أن تتحقق بحيوية وفاعلية.
3.وسائل الإقناع:
ما هي الوسائل التي نستخدمها في عملية الإقناع؟ وبعبارة أخرى بم نقنع الآخرين؟
الواقع أن أنواع الخطابات هي التي تكشف لنا الوسائل المستخدمة في عملية الإقناع، لذلك قبل الحديث عن هذه الوسائل لا بد لنا من معرفة أنواع الخطابات اللسانية والتي تتجلى فيما يلي:
أ.الخطابات المقنعة:
(1)الخطاب الديني (التبشيري).
(2)الخطاب السياسي.
(3)الخطاب التجاري (الإعلانات التجارية والسلع...).
ب.الخطابات التي تحمل عناصر قوية من الإقناع:
(1)خطاب المحاضرة.
(2)خطاب العلاج النفسي للمرضى.
(3)الخطاب الأدبي.
إن ما يميز المجموعة (أ) عن المجموعة (ب) هو "وسيلة الإقناع". المجموعة (أ) تعتمد على "العاطفة"، إذ تعمل على مخاطبة عواطف الآخرين، أما المجموعة (ب) فتعتمد على "العقل"، إذ تعمل على مخاطبة عقول الآخرين.
إن الإقناع العقلي: هو إقناع مرغوب فيه لأنه يقوم على الاحترام والتقدير للقيم الإنسانية مانحاً إياها فرصة حقيقية لأن تزن الأمور وتحكم حكماً عادلاً.
أما الإقناع العاطفي: فهو إقناع سلبي يقوم على المراوغة والحيلة حين يخاطب الطبيعة الإنسانية، وبهذا لا يعطيها فرصة حقيقية لاتخاذ القرار العادل.
وبكلمة أخرى، إن الإقناع العقلي يخاطب الوعي في حين أن الإقناع العقلي يخاطب اللاوعي.
على كل حال لقد تغيرت كل أشكال الخطابات المقنعة عبر الزمن من خلال استخدام "البدعة" أو "الانزياح عن المألوف". في الخطاب التجاري كانوا يستعملون قديماً كل ما هو مطبوع من الكلمات ويركزون عليه، أما الآن فقد أصبحوا يركزون على الصور. كان التصوير في القديم بدائياً ومكلفاً وليس ذا تقنية رفيعة، أما الطباعة فكانت أرخص وسيلة اقتصادية للإقناع. وهي وسيلة تخاطب العواطف من أجل تحفيزها وجلبها للشراء. في العصر الحالي هناك ضوابط تضعها بعض الحكومات للحد من الاتجاه العاطفي في الدعايات وإظهار الاتجاه العقلي بدلاً منه.
الواقع أن مبادئ الخطاب التجاري مشتقة من المدرسة النفسية لفرويد الذي ميز بين الوعي واللا وعي.
يتميز اللا وعي بأنه ينتمي إلى مرحلة ما قبل اللغة. وهو رمزي وغير متسلسل. ثم إنه بصري. أما الوعي فيتميز بأنه عقلي ولغوي وسمعي. وهكذا إذا أراد أحدهم أن يقنع الآخرين فإنه يضع اللا وعي في الوعي. أي أنه يستخدم المراوغة والحيلة والصور التجريدية والموسيقى والعاطفة أكثر من استخدامه الكلمات في سلسلة منطقية تحليلية برهانية. ولمعرفة هذا ينبغي أن ننتبه إلى الوسائل غير اللغوية المستخدمة في الدعايات من أجل الإقناع المضلل الخادع.
هذه التأثيرات السلبية المهلكة والمؤذية للخطاب التجاري تنسحب على الخطاب الديني والخطاب السياسي أيضاً.
الخطاب الديني التبشيري هو خطاب مؤثر وسيلته الضغط عاطفياً من أجل عملية الإقناع، ذلك أن هذا الخطاب يترك عند الآخرين الشعور بالخوف والرغبة للالتجاء إلى العاطفة وترك العقل من أجل تغيير المعتقد.
أما الخطاب السياسي فهدفه الإقناع من أجل خدمة أغراض سياسية خاصة. ذلك أن السياسي لا يريد ناخباً عارفاً بالأمور وإنما يريد صوت هذا الناخب فقط. وهو بذلك مثله مثل التاجر الذي لا يهتم –من خلال عرض إعلاناته- بتثقيف الشعب حول موضوع الصحة بقدر ما يريد بيع مزيل الروائح الكريهة فقط.
4.الخلاصة
يقوم الخطاب المقنع على كل ما هو شاذ وخارق للمألوف بحيث يأتي بطريقة غير متوقعة لا يمكن شرحها والتي بدورها تخلق التأثير في المستمع.
إن البحث المستقبلي ينبغي أن يتناول البنية السطحية للخطاب.
المقنع والبنية العميقة أيضاًُ ثم العلاقات القائمة بين البنيتين.
صحيح أن الخطابات تتشابه في الظاهر إلاّ أنها تختلف وظيفةً وهدفاً في الباطن. والواقع لا يمكننا كشف بنية الخطاب السطحية والعميقة إلاّ عندما تتوفر قواعد مرضيه للخطاب أو كما يقترح اللسانيون الاجتماعيون: نحو الخطاب عندها سنصل إلى مبادئ علمية صحيحة للخطاب الإنساني.
لقد أفدت كثيراً من كتاب اللسانية الأمريكية ديبورا تانن المنشور ضمن سلسلة منشورات الدائرة المستديرة التي تعقد سنوياً في جامعة جورج تاون- واشنطن العاصمة والذي يقع تحت عنوان:
Tannen, D (1982). Analyzing Discourse: Text and Talk. Georgetown University Press Washington, D. C.
(2) Grice, H. Paul. (1975). “Logic and conversation”. In: Syntax and Semantics 3: Speech acts Ed by peter cole and Jerry morgan. New York: Academic Press.
(3)Malinowski, B (1923- p 315) “The problem of meaning in primitve languages’ In: The meaning of meaning. By C. Ogden and I, Richards. Harcourt, Brace and World. New York.
(4) Cumperz, J (1977) “Sociocultural Knowledge in Conversational inference’. In: Georgetown University Round Table On Languages and Linguistics. Ed. By Muriel Saville- Troike. Georgetown University Press. Washington D. C.
(5) Erickson, F (1982- P 43-70) “Money Tree, Lasagna Bush, Salt and pepper: social Conversation of Topical cohesion in a conversation among Italian- Americans “In: Analyzing Discourse: Text and Talk. Ed. By D. Tannen. Georgetown University Press, Washington, D. C.
Cliquez ici pour modifier.